تنميــة المالكـيــة
عبدالهادي خلف
في اليوم التالي لنشر الحديث الملكي لرؤساء الصحف المحلية صدر عن اجتماع مجلس الوزراء بيانٌ يمكن اعتباره ''مذكرة تفسيرية'' لذلك الحديث[1]. ومن بين ما تضمنه البيان تجديده التأكيد على ''أن التطور مرهون بالأمن والاستقرار لما يشكلانه من محاور مهمة في عملية البناء والتنمية وأن تقويض أي منهما مرفوض وسيتم التصدي له باعتبار أن لا تطور مع التخريب ولا أحد فوق القانون في دولة المؤسسات والقانون''. اعتبر كثيرون هذه الفقرة من البيان تهديداً بإنزال العقاب الجماعي بقرى ومناطق تشهد احتجاجات مطلبية أو سياسية. ومثل كل تهديد جماعي فهو تهديد عشوائي لا يستهدف أحداً بعينه ولكنه قد يستهدف الجميع.
أشار مراقبون ومنهم رئيس التحرير المسؤول لصحيفة ''الوقت'' إلى احتمال أن يكون سوء الفهْم ربما ''دفع البعض إلى الاعتقاد بأن الحكومة قررت استخدام أسلوب العقاب الجماعي والتنصل من مسؤولياتها تجاه تلك المناطق[2]''. لا أتفق مع هذا الرأي. فلو كان ثمة سوء فهْم لأمكن معالجته بسرعة ولأمكن التخلص من تداعياته بإصدار توضيح صحافي أو بيان مقتضب عن رئاسة مجلس الوزراء أو الديوان الملكي. وهذا ما لم يحدث حتى الآن. بل إن تسلسل الأمور يشي بأن بيان مجلس الوزراء هو إعلانٌ رسميٌ عن توجه سياسي وأمني رآه بعضنا يتبلور تدريجيا بعد إعلان نتائج الاستفتاء على ميثاق العمل الوطني قبل سبع سنوات.
في الصفحات الأولى نفسها من الصحف المحلية التي نشرت بيان مجلس الوزراء نقرأ أن رئيس ديوان الخدمة المدنية أصدر ''تعميمات إلى الوزارات والجهات الحكومية بالقيام بتطبيق القانون بكل حزم ودون تردد واتخاذ الإجراءات القانونية الصارمة على موظفي الحكومة''. كما أشار التعميم حول الشباب المنخرطين في الأعمال الخارجة عن القانون (حتى ولو لم تصدر بحقهم أحكامٌ قضائية نهائية) ''فإن مشاركتهم في تلك الأعمال ستؤثر على مستقبلهم الوظيفي في القطاع الحكومي وفقا للقوانين والأنظمة المعمول بها''. وبطبيعة الحال فلقد أكد رئيس ديوان الخدمة المدنية أن قراره يستند إلى تكليف من مجلس الوزراء.
وفي اليوم التالي لنشر بيان مجلس الوزراء نقلت الصحف عن وكالة أنباء البحرين (بنا) أن وزير الأشغال أبلغ محافظ الشمالية بأنه ''في حال عدم المحافظة على الأمن والاستمرار بتعريض سلامة العمال الذين يقومون بتنفيذ مشروع مرفأ الصيد في المالكية للخطر فإن الوزارة ستضطر لوقف وإلغاء هذا المشروع''. وبيّن وزير الأشغال خلال زيارته لقرية المالكية أنه قام بالتنسيق مع المحافظ بشأن مشروع المرفأ ''الذي تعرض للتأخير بسبب ما يتعرض له العمال في هذا المشروع من تهديدات والتعرض لسلامتهم من قبل بعض المواطنين من المالكية''. كما أخبر الوزيرُ الأهالي أن ''صبر الحكومة قد اختبر إلى أقصى حدوده وأن التجاوزات الأمنية باتت غير مقبولة'' معلناً أن تدهور الأوضاع الأمنية حدا بوزارته ''لإيقاف مشروعاتها في القرية بما فيها المرفأ تخوفاً من تعرض العمال لإصابة أو إلحاق الضرر بالمشروع''.
أما وزير شؤون البلديات والزراعة الذي حضر اللقاء فلقد أكد الإنذار الذي قدمه زميله وزير الأشغال وأعلن ''أن المشروعات الخدمية في قرية المالكية مرتبطة بالاستقرار الأمني، وأنها ستتوقف إذا استمر العنف والتخريب في القرية'' وأن ''مشروع تطوير المالكية متوقف حتى يعود الاستقرار الأمني في المنطقة''. ولهذا ينصح الوزير أهالي القرية بألا يكتفوا ''بتوعية الشباب وإنما التصدي لهم إذا استدعى الأمر معتبراً أن كل مواطن يجب أن يكون رجل أمن للدفاع عن قريته موضحاً أن الانفلات الأمني أعاق عملية التطوير في قرية المالكية رغم كونها القرية الأولى ضمن مخطط لتطوير عدد من القرى مناشداً الأهالي إذا لم يتمكنوا من التصدي لمثيري الشغب على الإبلاغ عنهم وخصوصا أن أهالي قرية المالكية قد أكدوا أكثر من مرة بأن مثيري الشغب هم أفراد مندسون ومن خارج القرية''.
ولقد رأينا بعض الانعكاسات المباشرة لتلك التهديدات والإنذارات والنصائح في الخبر المنشور عن التقاء رئيس الأمن العام بوفد من أهالي المالكية برئاسة عضو مجلس الشورى السيد حبيب مكي. فحسب الخبر المنشور جدد الأهالي لرئيس الأمن العام ''تأكيد ولاءهم للوطن وحرصهم على المحافظة على أمنه وقيم وتقاليد المجتمع البحريني ومواجهة كل من يشكل خطراً على أمن قريتهم وأبدوا استنكارهم ورفضهم قيام آخرين بالتحريض على ارتكاب أعمال تخريبية بقريتهم تضر بهم وبالصالح العام وأنهم سيواجهونهم بالتعاون مع السلطات الأمنية''. من جهته رحب رئيس الأمن العام بالأهالي مشيراً إلى أنه ''لمس فيهم صدقهم في مشاعرهم وحرصهم على الشراكة المجتمعية وعدم السماح بأي أعمال غير مسؤولة التي يرتكبها بعض الخارجين على القانون''.
أقولُ ليس في الأمر سوء فهم بل هي بداية الإعلان الرسمي عن توجه أمني وسياسي بدت نُذره واضحة قبل سبع سنوات وتغافل عنها من انشغلوا باللهاث تدافعاً و تزاحماً وراء ما حسبوه استحقاقاتهم الشخصية. نعم لقد حاول كثيرون التنبيه إلى خطورة ما يجري تحت السطح إلا أن بريق ذهب المعز وأسلاب الانفراج السياسي كانت تبهر الأعين.
استعيدُ الآن ما جاء في مقال نشرته بعد أسبوعين من التصويت على الميثاق. ولقد أثار ذلك المقال استهجان بعض وجهاء المعارضة وغضب بعض المسؤولين. ففيه عددتُ الأسباب التي تدعو للتفاؤل والأسباب التي تدعو للتشاؤم حول إمكانيات بناء الدولة الدستورية ضمن ميزان القوى السائد في البلاد[3]. في خاتمة ذلك المقال دعوتُ المعارضة إلى مواجهة الواقع الذي لا مفر من مواجهته. وهو واقعٌ نعيشه وينعكس على ''القوى التي يتهدد مصالحها قيام مثل هذه الدولة ما زالت تمتلك من أسباب القوة ما يمكنِّها من الارتداد إلى عنق الزجاجة الذي كنا جميعاً فيه قبل أسابع قليلة. ويحتاج جميع دعاة الدولة الدستورية على اختلاف درجات موالاتهم ومعارضتهم إلى الاقتناع بأن المكاسب الفئوية، رغم بريقها، ستكون عرضة لخطر المصادرة ما لم تكن جزءًا من مكاسب شاملة تحققه المصالحة الوطنية التي تسمو على التعاضديات القائمة أثنية كانت أم طائفية أم قبلية''.
أحسبُ أن الدعوة مازالت قائمة رغم أن الوضع أسوأ الآن بكثير مما كان عليه قبل سبع سنوات. فوقتها لم يكن أحدٌ يجرؤ على إلهاء الناس عن مواجهة واقعهم أو يتناسى جميع مشاكل البلاد ليحدثهم عن ''دراجة جيفارا'' أو مسلسل ''نور''.
[1] لمراجعة المقتطفات الإخبارية، راجع صحيفة ''الوقت'' من 20 إلى 24 يوليو/تموز .2008
[2] فريد احمد حسن، ''برامج التنمية في القرى ممنوعة''،الوقت 26 يوليو/تموز .2008
[3] عبدالهادي خلف، ''البحرين.. ماذا بعد العرس؟''، القدس العربي، 1 مارس/آذار ,2001 الوصلة:
http://www.alquds.co.uk/archives/200...Thu/Quds19.pdf- كاتب بحريني - أستاذ علم الاجتماع في جامعة (لوند) - السويد
http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=7644